كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وهذه التربية هي التي يأخذ الله بها الجماعة المسلمة حين يأذن بتسليمها مقاليد القيادة ليعدها بهذه التربية للدور العظيم الهائل الشاق الذي ينوطه بها في هذه الأرض. وقد شاء سبحانه أن يجعل هذا الدور من نصيب الإنسان الذي استخلفه في هذا الملك العريض!
وقدر الله في إعداد الجماعة المسلمة للقيادة يمضي في طريقه بشتى الأسباب والوسائل وشتى الملابسات والوقائع.. يمضي أحيانًا عن طريق النصر الحاسم للجماعة المسلمة فتستبشر وترتفع ثقتها بنفسها- في ظل العون الإلهي- وتجرب لذة النصر وتصبر على نشوته وتجرب مقدرتها على مغالبة البطر والزهو والخيلاء وعلى التزام التواضع والشكر لله.. ويمضي أحيانًا عن طريق الهزيمة والكرب والشدة. فتلجأ إلى الله. وتعرف حقيقة قوتها الذاتية وضعفها حين تنحرف أدنى انحراف عن منهج الله. وتجرب مرارة الهزيمة؛ وتستعلي مع ذلك على الباطل بما عندها من الحق المجرد؛ وتعرف مواضع نقصها وضعفها ومداخل شهواتها ومزالق أقدامها؛ فتحاول أن تصلح من هذا كله في الجولة القادمة.. وتخرج من النصر ومن الهزيمة بالزاد والرصيد.. ويمضي قدر الله وفق سنته لا يتخلف ولا يحيد..
وقد كان هذا كله طرفًا من رصيد معركة أحد؛ الذي يحشده السياق القرآني للجماعة المسلمة- على نحو ما نرى في هذه الآيات- وهو رصيد مدخر لكل جماعة مسلمة ولكل جيل من أجيال المسلمين.
ثم يمضي السياق في تقرير حقائق التصور الإسلامي الكبيرة؛ وفي تربية الجماعة المسلمة بهذه الحقائق؛ متخذًا من أحداث المعركة محورًا لتقرير تلك الحقائق؛ ووسيلة لتربية الجماعة المسلمة بها على طريقة المنهج القرآني الفريد: {وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئًا وسيجزي الله الشاكرين وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتابًا مؤجلًا ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها ومن يرد ثواب الآخرة نؤته منها وسنجزي الشاكرين وكأي من نبي قاتل معه ربيون كثير فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين فآتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة والله يحب المحسنين}.
إن الآية الأولى في هذه الفقرة تشير إلى واقعة معينة حدثت في غزوة أحد. ذلك حين انكشف ظهر المسلمين بعد أن ترك الرماة أماكنهم من الجبل فركبه المشركون وأوقعوا بالمسلمين وكسرت رباعية الرسول صلى الله عليه وسلم وشج وجهه ونزفت جراحه؛ وحين اختلطت الأمور وتفرق المسلمون لا يدري أحدهم مكان الآخر.. حينئذ نادى مناد: إن محمدًا قد قتل.. وكان لهذه الصيحة وقعها الشديد على المسلمين. فانقلب الكثيرون منهم عائدين إلى المدينة مصعدين في الجبل منهزمين تاركين المعركة يائسين.. لولا أن ثبت رسول الله صلى الله عليه وسلم في تلك القلة من الرجال؛ وجعل ينادي المسلمين وهم منقلبون حتى فاءوا إليه وثبت الله قلوبهم وأنزل عليهم النعاس أمنة منه وطمأنينة.. كما سيجيء..
فهذه الحادثة التي أذهلتهم هذا الذهول. يتخذها القرآن هنا مادة للتوجيه ومناسبة لتقرير حقائق التصور الإسلامي؛ ويجعلها محورًا لإشارات موحية في حقيقة الموت وحقيقة الحياة وفي تاريخ الإيمان ومواكب المؤمنين: {وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئًا وسيجزي الله الشاكرين}.
إن محمدًا ليس إلا رسولًا. سبقته الرسل. وقد مات الرسل. ومحمد سيموت كما مات الرسل قبله.. هذه حقيقة أولية بسيطة. فما بالكم غفلتم عنها حينما واجهتكم في المعركة؟
إن محمدًا رسول من عند الله جاء ليبلغ كلمة الله. والله باق لا يموت وكلمته باقية لا تموت.. وما ينبغي أن يرتد المؤمنون على أعقابهم إذا مات النبي الذي جاء ليبلغهم هذه الكلمة أو قتل.. وهذه كذلك حقيقة أولية بسيطة غفلوا عنها في زحمة الهول. وما ينبغي للمؤمنين أن يغفلوا عن هذه الحقيقة الأولية البسيطة!
إن البشر إلى فناء والعقيدة إلى بقاء، ومنهج الله للحياة مستقل في ذاته عن الذين يحملونه ويؤدونه إلى الناس من الرسل والدعاة على مدار التاريخ.. والمسلم الذي يحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد كان أصحابه يحبونه الحب الذي لم تعرف له النفس البشرية في تاريخها كله نظيرًا. الحب الذي يفدونه معه بحياتهم أن تشوكه شوكة.
وقد رأينا أبا دجانة يترس عليه بظهره والنبل يقع فيه ولا يتحرك! ورأينا التسعة الذين أفرد فيهم ينافحون عنه ويستشهدون واحدًا إثر واحد.. وما يزال الكثيرون في كل زمان وفي كل مكان يحبونه ذلك الحب العجيب بكل كيانهم وبكل مشاعرهم حتى ليأخذهم الوجد من مجرد ذكره صلى الله عليه وسلم.. هذا المسلم الذي يحب محمدًا ذلك الحب مطلوب منه أن يفرق بين شخص محمد صلى الله عليه وسلم والعقيدة التي أبلغها وتركها للناس من بعده باقية ممتدة موصولة بالله الذي لا يموت.
إن الدعوة أقدم من الداعية: {وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل}.
قد خلت من قبله الرسل يحملون هذه الدعوة الضاربة في جذور الزمن العميقة في منابت التاريخ المبتدئة مع البشرية تحدو لها بالهدى والسلام من مطالع الطريق.
وهي أكبر من الداعية وأبقى من الداعية. فدعاتها يجيئون ويذهبون وتبقى هي على الأجيال والقرون ويبقى أتباعها موصولين بمصدرها الأول الذي أرسل بها الرسل وهو باق سبحانه يتوجه إليه المؤمنون.. وما يجوز أن ينقلب أحد منهم على عقبيه ويرتد عن هدى الله. والله حي لا يموت:
ومن ثم هذا الاستنكار وهذا التهديد وهذا البيان المنير: {أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئًا وسيجزي الله الشاكرين}.
وفي التعبير تصوير حي للارتداد: {انقلبتم على أعقابكم}..
{ومن ينقلب على عقبيه}. فهذه الحركة الحسية في الانقلاب تجسم معنى الارتداد عن هذه العقيدة كأنه منظر مشهود. والمقصود أصلًا ليس حركة الارتداد الحسية بالهزيمة في المعركة ولكن حركة الارتداد النفسية التي صاحبتها حينما هتف الهاتف: إن محمدًا قد قتل فأحس بعض المسلمين أن لا جدوى إذن من قتال المشركين وبموت محمد انتهى أمر هذا الدين وانتهى أمر الجهاد للمشركين! فهذه الحركة النفسية يجسمها التعبير هنا فيصورها حركة ارتداد على الأعقاب كارتدادهم في المعركة على الأعقاب! وهذا هو الذي حذرهم إياه النضر بن أنس رضي الله عنه فقال لهم حين وجدهم قد ألقوا بأيديهم وقالوا له: إن محمدًا قد مات: فما تصنعون بالحياة من بعده؟ فقوموا فموتوا على ما مات عليه رسول الله- صلى الله عليه وسلم.
{ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئًا}.
فإنما هو الخاسر الذي يؤذي نفسه فيتنكب الطريق.. وانقلابه لن يضر الله شيئًا. فالله غني عن الناس وعن إيمانهم. ولكنه- رحمة منه بالعباد- شرع لهم هذا المنهج لسعادتهم هم ولخيرهم هم. وما يتنكبه متنكب حتى يلاقي جزاءه من الشقوة والحيرة في ذات نفسه وفيمن حوله. وحتى يفسد النظام وتفسد الحياة ويفسد الخلق وتعوج الأمور كلها ويذوق الناس وبال أمرهم في تنكبهم للمنهج الوحيد الذي تستقيم في ظله الحياة وتستقيم في ظله النفوس وتجد الفطرة في ظله السلام مع ذاتها والسلام مع الكون الذي تعيش فيه.
{وسيجزي الله الشاكرين}.
الذين يعرفون مقدار النعمة التي منحها الله لعباده في إعطائهم هذا المنهج فيشكرونها باتباع المنهج ويشكرونها بالثناء على الله ومن ثم يسعدون بالمنهج فيكون هذا جزاء طيبًا على شكرهم ثم يسعدون بجزاء الله لهم في الآخرة وهو أكبر وأبقى..
وكأنما أراد الله سبحانه بهذه الحادثة وبهذه الآية أن يفطم المسلمين عن تعلقهم الشديد بشخص النبي صلى الله عليه وسلم وهو حي بينهم. وأن يصلهم مباشرة بالنبع. النبع الذي لم يفجره محمد صلى الله عليه وسلم ولكن جاء فقط ليومئ إليه ويدعو البشر إلى فيضه المتدفق كما أومأ إليه من قبله من الرسل ودعوا القافلة إلى الارتواء منه!
وكأنما أراد الله سبحانه أن يأخذ بأيديهم فيصلها مباشرة بالعروة الوثقى. العروة التي لم يعقدها محمد صلى الله عليه وسلم إنما جاء ليعقد بها أيدي البشر ثم يدعهم عليها ويمضي وهم بها مستمسكون!
وكأنما أراد الله سبحانه أن يجعل ارتباط المسلمين بالإسلام مباشرة وأن يجعل عهدهم مع الله مباشرة وأن يجعل مسؤوليتهم في هذا العهد أمام الله بلا وسيط. حتى يستشعروا تبعتهم المباشرة التي لا يخليهم منها أن يموت الرسول صلى الله عليه وسلم أو يقتل فهم إنما بايعوا الله. وهم أمام الله مسؤولون!
وكأنما كان الله سبحانه يعدّ الجماعة المسلمة لتلقي هذه الصدمة الكبرى- حين تقع- وهو سبحانه يعلم أن وقعها عليهم يكاد يتجاوز طاقتهم. فشاء أن يدربهم عليها هذا التدريب وأن يصلهم به هو وبدعوته الباقية قبل أن يستبد بهم الدهش والذهول.
ولقد أصيبوا- حين وقعت بالفعل- بالدهش والذهول. حتى لقد وقف عمر رضي الله عنه شاهرًا سيفه يهدد به من يقول: إن محمدًا قد مات!
ولم يثبت إلا أبو بكر الموصول القلب بصاحبه وبقدر الله فيه الاتصال المباشر الوثيق. وكانت هذه الآية- حين ذكرها وذكر بها المدهوشين الذاهلين- هي النداء الإلهي المسموع فإذا هم يثوبون ويرجعون!
ثم يلمس السياق القرآني مكمن الخوف من الموت في النفس البشرية لمسة موحية تطرد ذلك الخوف عن طريق بيان الحقيقة الثابتة في شأن الموت وشأن الحياة وما بعد الحياة والموت من حكمة لله وتدبير ومن ابتلاء للعباد وجزاء: {وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتابًا مؤجلًا ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها ومن يرد ثواب الآخرة نؤته منها وسنجزي الشاكرين}.
إن لكل نفس كتابًا مؤجلًا إلى أجل مرسوم. ولن تموت نفس حتى تستوفي هذا الأجل المرسوم. فالخوف والهلع والحرص والتخلف لا تطيل أجلًا. والشجاعة والثبات والإقدام والوفاء لا تقصر عمرًا. فلا كان الجبن ولا نامت أعين الجبناء. والأجل المكتوب لا ينقص منه يوم ولا يزيد!
بذلك تستقر حقيقة الأجل في النفس، فتترك الاشتغال به ولا تجعله في الحساب وهي تفكر في الأداء والوفاء بالالتزامات والتكاليف الإيمانية. وبذلك تنطلق من عقال الشح والحرص كما ترتفع على وهلة الخوف والفزع. وبذلك تستقيم على الطريق بكل تكاليفه وبكل التزاماته في صبر وطمأنينة وتوكل على الله الذي يملك الآجال وحده.
ثم ينتقل بالنفس خطوة وراء هذه القضية التي حسم فيها القول.. فإنه إذا كان العمر مكتوبًا والأجل مرسومًا.. فلتنظر نفس ما قدمت لغد؛ ولتنظر نفس ماذا تريد.. أتريد أن تقعد عن تكاليف الإيمان وأن تحصر همها كله في هذه الأرض وأن تعيش لهذه الدنيا وحدها؟ أم تريد أن تتطلع إلى أفق أعلى وإلى اهتمامات أرفع وإلى حياة أكبر من هذه الحياة؟.. مع تساوي هذا الهم وذاك فيما يختص بالعمر والحياة؟!
{ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها ومن يرد ثواب الآخرة نؤته منها}.
وشتان بين حياة وحياة! وشتان بين اهتمام واهتمام!- مع اتحاد النتيجة بالقياس إلى العمر والأجل- والذي يعيش لهذه الأرض وحدها ويريد ثواب الدنيا وحدها.. إنما يحيا حياة الديدان والدواب والأنعام! ثم يموت في موعده المضروب بأجله المكتوب. والذي يتطلع إلى الأفق الآخر.. إنما يحيا حياة الإنسان الذي كرمه الله واستخلفه وأفرده بهذا المكان ثم يموت في موعده المضروب بأجله المكتوب..
{وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتابًا مؤجلًا}.
{وسنجزي الشاكرين}.
الذين يدركون نعمة التكريم الإلهي للإنسان فيرتفعون عن مدارج الحيوان؛ ويشكرون الله على تلك النعمة فينهضون بتبعات الإيمان..
وهكذا يقرر القرآن حقيقة الموت والحياة وحقيقة الغاية التي ينتهي إليها الأحياء وفق ما يريدونه لأنفسهم من اهتمام قريب كاهتمام الدود أو اهتمام بعيد كاهتمام الإنسان! وبذلك ينقل النفس من الإنشغال بالخوف من الموت والجزع من التكاليف- وهي لا تملك شيئًا في شأن الموت والحياة- إلى الإنشغال بما هو أنفع للنفس في الحقل الذي تملكه وتملك فيه الاختيار. فتختار الدنيا أو تختار الآخرة. وتنال من جزاء الله ما تختار!
ثم يضرب الله للمسلمين المثل من إخوانهم المؤمنين قبلهم. من موكب الإيمان اللاحب الممتد على طول الطريق، الضارب في جذور الزمان.. من أولئك الذين صدقوا في إيمانهم، وقاتلوا مع أنبيائهم، فلم يجزعوا عند الابتلاء؛ وتأدبوا- وهم مقدمون على الموت- بالأدب الإيماني في هذا المقام.. مقام الجهاد.. فلم يزيدوا على أن يستغفروا ربهم؛ وأن يجسموا أخطاءهم فيروها إسرافًا في أمرهم.
وأن يطلبوا من ربهم الثبات والنصر على الكفار.. وبذلك نالوا ثواب الدارين جزاء إحسانهم في أدب الدعاء وإحسانهم في موقف الجهاد. وكانوا مثلًا يضربه الله للمسلمين: {وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين فأتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة والله يحب المحسنين}.
لقد كانت الهزيمة في أحد، هي أول هزيمة تصدم المسلمين، الذين نصرهم الله ببدر وهم ضعاف قليل؛ فكأنما وقر في نفوسهم أن النصر في كل موقعة هو السنة الكونية. فلما أن صدمتهم أحد، فوجئوا بالابتلاء كأنهم لا ينتظرونه!
ولعله لهذا طال الحديث حول هذه الواقعة في القرآن الكريم. واستطرد السياق يأخذ المسلمين بالتأسية تارة، وبالاستنكار تارة وبالتقرير تارة وبالمثل تارة تربية لنفوسهم وتصحيحًا لتصورهم، وإعدادًا لهم. فالطريق أمامهم طويل والتجارب أمامهم شاقة والتكاليف عليهم باهظة والأمر الذي يندبون له عظيم.
والمثل الذي يضربه لهم هنا مثل عام، لا يحدد فيه نبيًا ولا يحدد فيه قومًا. إنما يربطهم بموكب الإيمان؛ ويعلمهم أدب المؤمنين؛ ويصور لهم الابتلاء كأنه الأمر المطرد في كل دعوة وفي كل دين؛ ويربطهم بأسلافهم من اتباع الأنبياء؛ ليقرر في حسهم قرابة المؤمنين للمؤمنين؛ ويقر في أخلادهم أن أمر العقيدة كله واحد. وإنهم كتيبة في الجيش الإيماني الكبير: {وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا}.
وكم من نبي قاتلت معه جماعات كثيرة. فما ضعفت نفوسهم لما أصابهم من البلاء والكرب والشدة والجراح. وما ضعفت قواهم عن الاستمرار في الكفاح، وما استسلموا للجزع ولا للأعداء.. فهذا هو شأن المؤمنين المنافحين عن عقيدة ودين.
{والله يحب الصابرين}.
الذين لا تضعف نفوسهم ولا تتضعضع قواهم ولا تلين عزائمهم ولا يستكينون أو يستسلمون.. والتعبير بالحب من الله للصابرين. له وقعه. وله إيحاؤه. فهو الحب الذي يأسو الجراح ويمسح على القرح ويعوض ويربو عن الضر والقرح والكفاح المرير!
وإلى هنا كان السياق قد رسم الصورة الظاهرة لهؤلاء المؤمنين في موقفهم من الشدة والابتلاء. فهو يمضي بعدها ليرسم الصورة الباطنة لنفوسهم ومشاعرهم. صورة الأدب في حق الله وهم يواجهون الهول الذي يذهل النفوس ويقيدها بالخطر الراهق لا تتعداه. ولكنه لا يذهل نفوس المؤمنين عن التوجه إلى الله.. لا لتطلب النصر أول ما تطلب- وهو ما يتبادر عادة إلى النفوس- ولكن لتطلب العفو والمغفرة، ولتعترف بالذنب والخطيئة قبل أن تطلب الثبات والنصر على الأعداء: {وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين}.